اتكـاءه على جدار الصمـــت
فى ليلة صيـف قمريـة اتكأت على جدار الصمـت وغفوة أمام التلفاز .. .. يا جهاد .. يا نهاد .. يا صغير .. يا كبير هناك حجر يناديك .. تدور عجلة الزمن وتقسو الأيام علينا لحظة بعد لحظة ,, ونقف بصمود .. .. بكبرياء .. .. نتحدي المحن .. ونصول ونجول حتى نسقط فى ساحة الأقصى الأشم مرفوعي الرأس عزة وكبرياءً .
فى سكون الليل البهيم دوي صوت قنابل وقاذفات صواريخ .. وضجيج آليات تزحف فى الطريق .. تَنَادينا .. تَدَاعينا .. وكان أول البيوت لشيخنا ورائدنا أبو سلمي الأشقر .. وصلنا إليه ولكن كان لحظتها " البلدوزر " قد قال كلمته فى المبني الذي كان رمزاً لنا كصاحبه .. اختلطت حجارة البناء بالدماء .. وزحف " البلدوزر " نحو المسكن الثاني والثالث .. وبين الأنقاض كان هنالك جسد نحيل صغير ضاعت معالمه التى كانت بالأمس رمز للطهر والبراءة .. للحظة تجمدنا من هول القسوة والجبروت .. ثم انطلقنـا فى كل حـدب وصوب نجمع الحجارة .. نقـذف .. نرمي إنهـا عليهم حمـم من نار ..
بالأمس القريب كان وجهها الصغير الملائكي الباسم يتفتح ويتوهج .. ترقد على سريرها المزخرف ترفع يديها ورجليها فى عبث طفولي زاخر بالبراءة .. وردة تنتظر الغد لتزداد تفتحاً ونضارةً .. ولكن تخطفها الأيادي الغادرة الغاشمة .. وترمي بها فى أخدود الإبادة الجماعية الذي لا يفرق بين صغير وكبير .. نسيج جسدها البض يختلط مع دماء جدها التى أرتوت من كيد الخبثاء واسودت من لسع سعير الجبناء .. آه يا فلسطين العروبة .. آه يا فلسطين السليبة .. آه يا مهد الأنبياء يا من تركت وسط النيران وحيدة .. جاء اليوم الذي وقف فيه المقربون يتفرجون .. وينددون .. .. وإذا أدلهم عليهم الليل أكثر يتباكون .. ولكن هذه المحن والأيام المقلوبة ستعيد التاريخ كرة أخري وسيولد من رحم الفجيعة من يفقع عين الجبروت ويحطم سطوة التسلط ..
- يا أستاذ .. يا أستاذ .. أين سارح أنت .
- آه .. نعم .. آسف .
- أليس هذا البيت الذي تقصده .
- نعم .. شكراً لك . " أعطيته ما اتفقنا عليه "
وسرت بخطوات ميتة نحو الباب العتيق وطرقته بإبهامي الأيمن طرقات خجلي ترددت فى أذنيّ تذكرني بدقات المطر علي سطح منزلنا المتهالك فى ليالِ الخريف التى كانت حبلى بالغيث والأماني المنمقة ومنازل الرمال المتهالكة - كان منزلنا عبارة عن خيمة من بقايا الصفيح والزنك الصدى - فى تلك المدينة التى قضيت فيها نعومة أظافري فى الزمن الحالم الذي انقضي ولم نك نعلم منه سوي حكاوي الآباء والأجداد .. وجاء صوت رفيقي ( النخلي قيثارة الشعر الغنائي ) من بعيد يردد كلماته التى اعتصرها من بين جوانحه المملوءة شوقاً وشبقاً بالوطن المعنى ..
شبه حريق فى
قلب النسمة
وسده طريق
الحب والبسمة
الدار غريبة ومكلومة .. والأنامل تمتد خجلي ومرتجفة .. والأعين ذابلة محمرة .. والقدر المحتوم مرسوم بين الحدقات خطوط وتجاعيد .. والحقد النابع من ويل الليل الآسن مكنون فى النفوس .. والمرجل يغلى ينفث ناراً ودخاناً .. .. وأطفالاً وحجارة .. والمخلصون الصارمون يذهبون ضحايا السكك الملغومة .. وآخرون ينعقون فى حلقات مفرقة .. ومتاهات سلام موهومة .. والأجساد الصرعى تلهب النفوس الأبية وتزرع فى رحم الزمن للأمل بقية .. ..
ويتهادى الحلم .. فى خطي الصحو وينداح لحظة ويتبعثر لحظات .. وتتقارب المسافات وتسرع عقارب الساعات ويقف الزمن فى لحظة مشحونة بالأمنيات الصريعة .. وتمتزج الصورة .. الوطن البعيد .. والوطن القريب .. الوطن الكبير .. والوطن الصغير .. ما بين الاثنين خيط رفيع .. ومسافات للخوف والفجيعة .. ومتاهات تنبع من جعبة الماضي المغبون والمترع بالأحزان والقطيعة .. وليالِ الصيف القمرية .. تفضح ليل الغربة المسكوب فى بحر الأسـية .. وتولد صبحاً فى الأعمـاق منسيا .. وخلـف المـدى البعيـد بريق النور وحد السيف .. ودقة (نقارة) ورقصة (بقارة) .. .. ورنة ربابة ووشمة نيلية .. ونمه عربية .. .. تتلاحم تتزاحم تبحث عن ألق اللقيا وشفافية الموقف وبعد الرؤيا .. .. وسماحة التراحم والتعايش .. ومجداف النيل يضرب عبر اليم .. يصيح .. .. يا وطن لن تندم .. .. يا وطن لن تندم .. لن تندم مد ايديك وأتصافح .. وضم أولادك الطيبين .. شـد الحيـل مع جيرانك الطيبين .. ما أنت حلبة الزهاد ودار العباد وزاد للتقوى .. وصباح الأعياد .. .. يا وطن أصرخ .. يا وطن انضح وأفصح .. لملم شتات أولادك الضائعين .. وسد الثغرة والفجـوة .. وابني دار من طين الطمي الريان .. فيها ملامح النيل وسمرة ناسك الطيبين .. .. ويأتيني صوت رفيقي " النخلي " يناجيني يؤرقني ..
اقَرِب واحبس الأنفاس
أوسد روحى صمت السور
أنادى (الشُفع) القاعدين
على رملك يكوسو (شليل)
رجع مرتد صدى الندهة
كسر روعة وقار الليل
ظهر وجهك حزين باكي
مسيج بى غبار الويل
ورددت عليه بأول المقطع المحفور فى ذاتي والممزوج بدمي ..
مساءً تومض الذكرى
على قلب الحجر عصفور
يقاتل قمرك الظلمة
يلم قلبك شتات النور
وصحوت على صوت الموسيقى .. والنفس حبلي بالأمنيات
عصام عبدالرحيم
عصــام الدين أحمد عبدالرحيـــــم تابر